عدد المشاهدات 568
تتوقف كل عملية ابداع على رفع الواقع المعاش او محاكاته او تخيل بدائله و تقديمه وفق ما يتطلبه الوعاء النسقي للمتلقي من عرض واضح بسيط الى أعلى درجات الرمزية و التجريد. و هنا يكون الفن عندها منوطا بالغموض وقابلا لاختلاف وتباين القراءات. إن فهم غموض الفن وتفسيره، يشكلان تحديا لا يتوانى عالم الجماليات عن رفعه، أيا كانت مخاطر الفشل، و لهذا ورثت الجمالية غموض الفن.
“الفن لا يكتفي أن يكون موجودا، لأنه يعني كذلك طريقة في تقديم العالم، في إظهار عالم رمزي موصول بحساسيتنا، وحدسنا، وبخيالنا، و استيهاماتنا، وهو جانبه التجريدي”.( مارك جيمينيز، 2009:20). والرمز كما يقول بودوان Charles Boudouin نظام يتكون بفعل نواميس المخيلة، إنه تصور للعقدة و إسقاط لدينامكيتها على صعيد الصورة، انه الفعل الممتاز للمخيلة الخلاقة ونقطة الثقل في عملية الإبداع. لذا على المحلل عند قراءة ما تعنيه الرموز، دراسة الصور والإشعارات وهي بمنزلة الرموز. (خريستو نجم، 1991)
إذا كان كاسيرر Cassirer قد أكد على رمزية الفن، فإن سوزان لانجر Langer قد أكدت على أن الفن نسق رمزي ابتدعه كائن ناطق للتعبير عن شعوره في مجال أوسع من مجال اللغة الكلامية وتقول إن الفن رمز Symbole والعمل الفني صورة رمزية، والفن إبداع لأشكال قابلة للإدراك الحسي بحيث تكون معبرة عن الوجدان البشري. ( رمضان الصباغ، 2002)
إن كل ارتباط للخبرة بالفن – كما بين لنا جادامر Gadamer هي أيضا خبرة بالرمز شرط أن نعي أن الرمز لا يشير فحسب لمعنى، وإنما يسمح لهذا المعنى بأن يقدم ذاته، من خلال فعل من أفعال التمثيل.( سعيد توفيق،2017). “الفن لا يكتفي أن يكون موجودا، لأنه يعني كذلك طريقة في تقديم العالم، في إظهار عالم رمزي موصول بحساسيتنا، وحدسنا، وبخيالنا، و استيهاماتنا، وهو جانبه التجريدي”.( مارك جيمينيز، 2009:20).
اقتبس كتاب كثيرون مصادر أعمالهم من الأساطير اليونانية والرومانية، تلك الأساطير المشهورة التي صنفها ريبو T. Ribot في كتابه “الخيال المبدع” الى نوعين من الأساطير لدى البدائيين: أساطير تفسيرية مهمتها تفسير الظواهر التي يشهدها البدائي، و أساطير أخرى غير تفسيرية. تنبع الأولى من حاجات حقيقية كالحاجة إلى المعرفة وتنتهي في تطورها على مر العصور إلى الإبداع العلمي في صورته الحديثة، أما النوع الثاني فيصدر عن الحاجة إلى الترف وينتهي في تطوره إلى الإبداع الأدبي الحديث. ( مصطفى سويف، 1959)
إن تفسير الرمز لهو شبيه إلى حد ما بعمليات إيجاد معنى الكلمات غير المفهومة في نص ما، والسياق الذي ترد فيه يسهم في فهمها، وفي نفس الوقت طالما يكتشف المعنى المناسب لاستعماله في عدة مناسبات أخرى يصبح مفيدا لتوضيح النص بكامله.
لكي يوضح المحللون النفسيون كيفية تكوين صورة عن الأسطورة افترضوا وجود فترة بعيدة من الوقت عندما كانت الدوافع الأنانية البدائية والدوافع الجنسية الطائشة مسيطرة على عمل الإنسان. ويعتقد ان خلال هذه الفترة لم يجد الناس ضرورة أو مقدرة على خلق الأساطير، إلا أنه مع تطور البشرية كان لابد لهذه الدوافع البدائية من أن يتخلوا عليها تدريجيا في العمل والفكر الواعي، إلى درجة ملحوظة على الأقل. وأصبحت هذه البواعث مكبوتة ولكنها تحذف بكليتها، لذلك نشأ بدلا منها تدريجيا إشباعات عن طريق التخيل و توقفت مع مرور الزمن الإشباعات العلنية، و مكنت هذه الإشباعات البديلة بدورها الناس من قمع بواعثهم الاجتماعية الهدامة بنجاح وتقدم إلى درجة ما. وفرت الأعمال الرمزية الغريبة الشكل لهم إشباعا هذيانيا لرغباتهم الجنسية المكبوتة، تكون في الأغلب اشباعات رمزية، إلا أن الجوع من ناحية أخرى لا يخضع لأي شكل من أشكال الإشباع البديل لأنه من الضروري إشباع الجائع بصورة مباشرة حفاظا على بقاءه.
صار تكوين التخيلات معقدا، ويعبر عن البواعث البدائية في الأسطورة بشكل خفي، ولا تتناول هذه الأساطير الجنس البشري إذ لو فعلت ذلك لسببت الكثير من الخجل لذلك فهي تعزى إلى أشخاص هم فوق البشر وإلى أجرام سماوية غريبة أو إلى آلهة أو إلى أبطال يرتفعون إلى مصاف الآلهة.
لقد سبق لفرويد بنظرته الثاقبة أن أكد على أن معظم الدوافع الاسطورية تشع انطلاقا من أسطورة البطل. هي معروفة جدا و منتشرة بأنماط لا تحصى في كل الأساطير وتتركز باختصار على صراع البطل مع الوحش، أو التنين، و غيرها. وهنا نجد أن “رانك اوتو” بين أن أسطورة البطل إنما هي أسطورة ولادته على الرغم أن هذه الأخيرة قد تسرد كحدث ثانوي. و ظهور تمركز الأساطير حول البطل يجب أن يثير فينا اليقظة. وقد ظهر جليا أكثر فأكثر وبقي الموضوع المركزي للصراع ينطوي في مشهد الإعتاق والتحرير هذا على رمزية الولادة الثانية للبطل.
لقد استعاد يونغ Jung بدوره هذا الموضوع المفضل من خلال مؤلفه عام 1912 الى جانب أبراهام Abraham في تفسيره لأسطورة “بروميثيوس” وانتقل من النار إلى الشمس وكلاهما رمزا “الليبيدو” وهما موازيان للرمز القضيبي (الثعبان والسمكة). يلعب البطل دورا بارزا في كل الأساطير وله فضلا عن ذلك علاقة بعقدة أوديب.
كان ليونغ الفضل في لفت الانتباه إلى العناصر ما قبل الاوديبية للأسطورة. حيث اعتبر أسطورة البطل ابعد من أن تكون في نظره نزوة أوديبية بسيطة خالصة إنها تشكل بـالنسبة إليه انتصار على الاوديب أي انتصارا على الذات، فيظهر البطل كعلامة بعض سمات الوحش او التنين الذي يقاتله (الشعلة في عينه والسيف بين أسنانه كلسان الحية)، وهي حسب يونغ مشاركة تجانسية في طبيعة الوحش. ( شارل بودوان، (1992
إن آليات تكوين الخيال والأوهام اللاشعورية وخلق الأساطير لا تساعد فقط وبوجه عام على حصول المرء على اللذة (والإبقاء عليها) من أعماله ورغباته و افكاره المقدر لها أن تصدر وتكبت ولكنها تساعد أيضا على إنكار وإبطال تأثير الاختيارات المؤلمة وغير السارة التي يفرضها الواقع من الإنسان. و لذلك “عزا الإنسان الموهوب في نسج الخيالات والأوهام في قديم الزمان ولقد زودته عمليات الطبيعة بمواد الأسطورة لا بدافعها.” ( باتريك ملاهي،1962:108).
و إذا ما تتبعنا جدلية الصور والمعاني لتحققنا أن الباعث على التضحية مرتبط غالبا بباعث الشجرة التي تحمل الثمار؛ شجرة الحياة التي هي أيضا كالماء رمز متواتر للأم.( شارل بودوان، (1992
ولقد استعاد تيودور ريك Theodore Reik فيما بعد متأخرا في كتابه “الأسطورة والإثم” موضوع الشجرة في الخطيئة والخلاص وأخضعه لصياغة اشد تعقيدا.
ميز يونغ Jung عند المؤلف للعمل الأدبي طريقتين في الإبداع: النفسانية والرؤية. فالرواية النفسانية حيث الوقائع تتسلسل بتتابع بواعث قابلة للفهم وقد أعلن بأن الطريقة الرؤيوية تجذب على نحو مفارق اهتمام عالم النفس أكثر من الطريقة النفسية. برز في هذا السياق أوتو رانك Rank Otto كنقطة انطلاق في البحث عن الدلالة الرمزية للأسطورة والأدب. يُعيد رانك صناعة اسطورة البطل والحكايا التي تدور في فلكها، إلى تقهقر الكبار نحو مرحلة طفولتهم المبكِّرة، وإلى عمليات تخيّلهم لتلك المرحلة، وعلى وجه الخصوص عملية الولادة. فلم تكن المغامرة والتهوُّر والابتعاد عن ” الرحم الاجتماعيّ”، إلا إعادة تمثيلٍ لمخاطر ومخاضات الولادة الأولى للإنسان. وما أسطورة ولادة الأبطال إلا محاكاة رمزية لواقع إنساني قديم.
أما براون Brown (1940) فقد اهتم بالفنون الزمنية، كالرقص والموسيقى والشعر وعلى رأيه اعتبر الإيقاع هو العنصر الجوهري في الناحية الشكلية، فالرقص حركات منتظمة على أساس وحدات زمنية بينها تناسب معين، وكذلك الحال بالنسبة للنغمات في الموسيقى والأبيات في الشعر؛ لكن اعتبرها آخرون ذات دلالات جنسية صريحة( مصطفى سويف، 1959)
و كلما نزلنا من مستوى الكبار الى مستوى الاطفال الصغار وجدنا الادب الموجه لهم في أبهى حلته الرمزية. يؤكد ستانسلافسكي Constantin Stanislavski انه من الضروري أن نمثل للأطفال، كما هو من الضروري أن نمثل للكبار، ولكن تمثيلنا للصغار يجب أن يكون أفضل، فكان هذا التمثيل مشبعا بالرموز من عالم الأطفال، عالم كله خيال و رموز ذات قيم و دلالات، لغة يفهمها الصغار أكثر من الكبار.
المراجع:
- باتريك ملاهي، (1962)، عقدة أوديب في الاسطورة و علم النفس، ترجمة جميل سعيد، لبنان: منشورات مكتبة المعارف.
- بشير خلف، (2009)، الفنون لغة الوجدان، الجزائر: دار الهدى.
- خريستو نجم، (1991)، في النقد الأدبي و التحليل النفسي، لبنان: دار الجيل.
- سعيد توفيق، (2017)، تأويل الفن و الدين، مصر: الدار المصرية اللبنانية.
- شارل بودوان،(1992)، علم النفس المركب. تفسير أعمال يونغ، سوريا: دار الغربال.
- عبد الغني، (2015)، سيكولوجية الألوان،الأردن: عماد الدين و الوراق للنشر والتوزيع.
- كاميلي ياليا،(2015)، أقنعة جنسية، الفن و الانحطاط من نفرتيتي إلى إميلي ديكنسون، ترجمة ربيع وهبة، مصر: المركز القومي للترجمة و دار التنوير للطباعة و النشر.
- مارك جيمينيز،(2009)، ماالجمالية؟، ترجمة شربل داغر،لبنان: المنظمة العربية للترجمة.
- مانيليو بروزاتين،(2018)، قصة الألوان، ترجمة السنوسي استيته، مملكة البحرين: هيئة البحرين للثقافة و الآثار.
مصطفى سويف،(1959)، الاسس النفسية في الإبداع الفني. في الشعر خاصة، الطبعة الثانية، مصر: دار المع