الألوان الغنائية الشعبية في الجنوب التونسي “غناء البراش بجهة تطاوين

الدكتور عبد السلام الفيتوري

 

 

ملخص

يهدف هذا المقال إلى دراسة غناء “البرّاش” بوصفه أحد الألوان الغنائية الشعبية المميّزة في الجنوب التونسي، وتحديدًا في جهة تطاوين، حيث يشكّل هذا النمط الغنائي جزءًا أساسيًا من التراث الشفوي المحلي. يتناول البحث الخصوصيات الفنية والدلالية لهذا الغناء، مبرزًا علاقته بالبيئة الصحراوية وبالنسيج الاجتماعي الذي نشأ فيه. ويبيّن الكاتب أنّ غناء البرّاش كان وسيلة للتعبير عن المشاعر الجماعية، ومجالاً لتداول الحكايات والأمثال والرموز التي تعبّر عن القيم القبلية والانتماء للأرض. كما يستعرض المقال التحولات التي عرفها هذا اللون الغنائي في ظلّ تغيّر البنية الاجتماعية والاقتصادية، وما نتج عنها من تراجع في حضوره بالممارسات الاحتفالية المعاصرة. ومن خلال المقارنة الميدانية، يكشف المقال عن تلاشي بعض وظائف الغناء التقليدي، مقابل بروز محاولات لإحيائه ضمن جهود صون التراث اللامادي. في الختام، يؤكد الباحث على ضرورة إدماج هذا اللون الغنائي في مشاريع البحث الميداني والتوثيق الثقافي، لما يحمله من قيم رمزية وجمالية تعبّر عن هوية الجنوب التونسي وذاكرته الجماعية.

لكلمات المفتاحية: غناء البرّاش – الألوان الغنائية الشعبية – التراث اللامادي – جهة تطاوين – الذاكرة الجماعية – الهوية

Summary

This article explores Berrāsh singing as one of the distinctive forms of popular vocal expression in southern Tunisia, particularly in the Tataouine region. It highlights this traditional art as a key component of the local oral heritage, reflecting the intimate relationship between music, environment, and community life. The study examines the aesthetic, symbolic, and social dimensions of Berrāsh singing, showing how it once served as a medium for expressing collective emotions and transmitting moral values, stories, and proverbs that embody tribal identity and attachment to the land. The article also analyzes the transformations that this genre has undergone due to social and economic changes, leading to its gradual decline in contemporary festive practices. Through field observations, the researcher reveals the erosion of some traditional functions of the song while noting emerging efforts to revive it within cultural heritage preservation programs. Ultimately, the study underscores the importance of documenting and safeguarding this vocal tradition as a living expression of southern Tunisia’s cultural identity and collective memory.

 

مقدمة

إنّ الذّاكرة الجّمعيّة هي ذلك الجمع الرمزي لذاكرات الأفراد، وهي تأسيس لهويّة المجتمع وضمان صيرورته. ويمكن القول أنْ الذّاكرة الجمعيّة أهمّ مرتكز يقوم عليه وبه مشروع التوثيق، فهي تقوم بسرد الأحداث ونقلها عن طريق الرواية الشّفاهيّة. فبتداولها كل جيل بإضافة أشياء جديدة أو حذف أشياء أخرى لتتوافق في النهاية مع واقع حياته التي يعيشها. فقد اعتمد البشر قديما على ذاكرتهم، لتخزين عاداتهم ونقل تقاليدهم. فلقد كانت الذّاكرة الجّمعيّة مصدراً للتاريخ من خلال جميع أوجه النشاط الثقافي والمعرفي لهذه الجماعة. ومن أهم هذه الأوجه الشعر والخطابة والسير والحكايات والبطولات الجّمعية والفن والأسطورة.

“تستحضر الذاكرة لا التاريخ المكتوب فقط بل التاريخ الذي يعيشه الناس ويتناقلونه جيلا بعد جيل، ويصنعون من خلاله حركة مجتمعاتهم وهنا تقوم الذاكرة بدور المراقب والحارس”[1]

ولعل كل ما تنتجه الذّاكرة الجماعيّة الشعبيّة وتروّجه من تلك المأثورات الشّفوية، هو بالضرورة تراثٌ شعبي. ولئن ذهب البعض إلى القول أنْ هذا التراث هو من تلك الأمور التي ماتت تماما واندثرت في طيّات النسيان. وباعتبارها قد ارتبطت بالأجداد والزمن الغابر، فهي ثقافة ذلك العصر الذي ولّى بمحاسنه ومساوئه. فإن هذا لا ينفي ان ذلك التراث إنما هو تجسيد لمخيال الجماعة وانعكاس لصورة المجتمع البدوي في أدق تفصيله بالرغم مما يطرأ عليها من تغيرات وتحريفات. “الأغنية قصيدة غنائية ذات لحن معين مجهولة النشأة. عاشت أجيالا طويلة سابقة في الوجدان الشعبي طورت وهذبت خلالها وأٌضيفت لها معان جديدة”[2]

والأغنية الشعبيّة وباعتبارها فرعا من فروع التراث الشعبي، تعد مدخلا من المداخل التي ترصد الحياة الشعبيّة للمجتمعات باعتبارها قديمة قدم المجتمع والإنسان نفسه ومؤ طرا تاريخيّا تنطلق منه حضارة أي مجتمع. لذلك كانت بمثابة السجل الذي يسطر تاريخ الأمة بمكوناته المادية واللامادية، ويمكن القول إنّ الأغنية الشعبية، وعلى الرغم من أنها اعتبرت كنوع من الأدب العامي يغلب عليه الكلام المتصنع ويحوم حول مواضيع مبتذلة جعلته محل ازدراء واحتقار. إلا أنّ هذا لا ينفي أنّ الأغنية الشعبية، وبما تحمله من رموز فأنها كانت تكشف عن تجارب الإنسان مع نفسه، ومع الكون من حوله.

 كذلك يمكن أنْ نشير إلى أنّ حضور الأغنية الشعبية، هو حضور لذاكرة بكل ما تحمله من عبق تاريخ الأجداد والأجيال السابقة. لتأخذنا في رحلة عبر ماض أنتجه الأجداد ليخلقوا منه توصلا بين الماضي والحاضر والمستقبل. كما يمكن القول أيضا في هذا الإطار أنْ الأغنية الشعبية، قد تجاوزت تلك الوظيفة الاعتيادية المنحصرة في كل ما هو ترفيهي أو طربي. بل كانت تعد بمثابة ذاكرة للمكان والزمان وكذلك كان للأغنية الشعبية دور في حماية الهوية، من كل أشكال الافتتان والنسيان. كما أنْ الأغنية الشعبية مكنتنا من التعرف على كل تلك التفاصيل العجيبة، في حياة أهل البادية المادية والفكرية والاجتماعية. كذلك يمكن القول أيضا أنْ الأغنية الشعبية كان لها الدور الكبير، في الكشف عن اللاّشعور الجمعي. فلطالما كانت الأغنية الشعبية بمثابة تلك النافذة التي من خلالها يمكن الكشف عن الحالة النفسية والاجتماعية للفرد أو الجماعة.

لذلك تعد الأغنية الشعبية ركنا من أركان ثقافتنا وصفحة تعكس جانبا من عاداتنـا وتقاليدنا. و الأغنية الشعبية تختلف عن غيرها من سائر أشكال التعبير الشعبي في كونها تؤدى عن طريق الكلمة واللحن معا، لا عن طريق الكلمة وحدها. و من ثم كان البحث في الأغنية الشعبية ذو شقين، شق يختص بالكلمة وشـق يختص باللحن والموسيقى.” “أما الشق الموسيقي فينبغي أن يكون البحث فيه من اختصـاص البـاحثين في الموسيقى بصفة عامة، والموسيقى الشعبية بصفة خاصة. “أما الجانب الكلامي فيدخل في اختصاص أصحاب الدراسـات الفلكلوريـة والاجتماعية”[3] الأغنية الشعبيّة تتشكّل في ضوء الواقع والثقافة السائدة في المجتمع، وموضوعها الثقافي هو الذي يجعلها موضوعا للأنثروبولوجيا الثقافية. والواقع أنّ البحث في العوامل الاجتماعية والثقافيّة المساهمة في تشكيل الأغنية إشارة إلى جملة من العادات والتقاليد التي تختلف باختلاف البيئة والمحيط الاجتماعي الثقافي المنبثق عنهما هذا النمط الغنائي الشعبي. ولعل ما يميز الأغنية الشعبية هي  تلك القدرة التي تمتلكها من أجل الحفاظ على نظام القيم وترسيخه وجعله يتواصل حيّا فاعلا عبر التداول من جيل إلى آخر، حيث تساهم في ترسيخ الثقافة واستقرارها وتعميقها لدى الأفراد، وتضمن للفرد تناسقا وتناغما مع البناء الثقافي للمجتمع، شكلا ومضمونا فالأغنية الشعبية وباعتبارها مادة ثرية ومعبرة، ونتاجا للشعوب عبر حقب زمنية متعاقبة فأنها كانت حاملة لعدة دلالات رمزية ومعان تتحدد من خلالها الهوية الثقافية للمجتمع البدوي. كما يمكن القول أيضا في هذا الإطار أن الأغنية الشعبية وبأعتبارها نتاجا لتلك الذاكرة الجمعية. فأنها كانت بمثابة ذلك المرتكز الذي يقوم عليه وبه مشروع التوثيق والتخزين. ولعلها في فترة ما اعتبرت المصدر الوحيد، الذي نستند إليه في دراستنا لتحديد لنمط عيش المجتمعات الإنسانية. فالأغنية الشعبية هي مرآة للحضارة وهي مرآة صادقة تقدم سجلا حيا يكشف عن طبيعة عيش الأفراد وقواعد سلوكهم وأنماط حياتهم العملية والفكرية فهي تعبر عن مضامين الحياة الإنسانية المختلفة وأنماطها المتنوعة. ولا شك في ذلك أن الأغنية الشعبية، تمثل صورة دقيقة لواقع حياة الإنسان البدوي. فأغاني البرّاش مثلا وباعتبارها كلون غنائي شعبي، إنما هي انعكاس لنفسية الإنسان البدوي وفكره وتسعي ما استطاعت إلى تشكيل هوية الإنسان وتحديد ملامح شخصيته في حقبة ما من تاريخ البشرية. “إن الأثر الثقافي لا تتحقق فيه صفة الشعبي إلا إذا نجح في خلق تواصل في الشكل والمضمون والخطاب، والرؤية للعالم مع البنيات الذهنية للفئات التي تبنته”[4]

لذلك فالأغاني الشعبية تختلف وتتنوع حسب طبيعة عيش المجتمع البدوي ولعل من بين تلك الألوان الغنائية الشعبية التي تحضر عند أهل البادية في جهة تطاوين أغاني البراش التي وان تراجعت في أشكال حضورها اليوم إلا أنها مازلت تحضر في مختلف الممارسات الاحتفالية الفرجوية  فما هو غناء البراش؟ وماهي ابرز خصائص غناء البرّاش وطبيعة السياق العام الذي يمارس فيه؟

      I.            أغاني البراش

 البراش هو لون غنائي حكر على النساء دون الرجال تختص به، المرأة ولا تغنيه إلا ليلا وهو أقرب الي الشعر الملحمي منه إلى الأغنية إذا هو مرتبط بقصص الحب والحزن أو، بالسمر وعادة ما ينبني على التساؤلات والحوارات الداخلية أو الخارجية. مثل “قمرة يا وقادة الغالي وين بلاده”. وهو يسمي بالجنوب الغربي بالشبرّاش وفي مناطق أخري “مثل الشمال الغربي يسمي بالنجمة”[5] وقد ارتبطت أغاني البراش وكما يشير إلى ذلك الضاوي موسي،” بالاحتفالات في عاشوراء وهو اليوم العاشر من شهر محرم الذي صادف مقتل الحسين بن علي لذلك كان الشيعة، يحيون فيه ذكري مأتمه عبر عدة طقوس. وبالتالي فهو تقليد تعود جذوره إلي دولة الفاطميين الشيعة (909-1771م)[6]

وبالإضافة إلى ذلك فإن البرّاش إلى جانب أنه سلس وذو إيقاع ويتميز بالخصوصية والفرادة وهذا، ما يجعله شكلا غنائيا متنوع وثري. من ذلك أنه من حيث الموضوعات المعالجة يتطرق إلى كل مظاهر، حياة البادية في مختلف تجلياتها. ويمكن القول في هذا الإطار، أنّ البراش يعد بمثابة المتنفس للمرأة والصبية لتتحدث عما يختلج في كيانها. وهو المعبر الوحيد عن تجربتها ومن هذا المنطلق يمكننا القول، أنّ البرّاش هو ديوان المرأة كشعر تماما هو ديوان الرجل. وعادة ما يكون البرّاش ذو إيقاع خفيف تتغني به الصبايا، أيام كانت ترعي الغنم وسط الوهاد والفيافي البعيدة تروح عن نفسهن وبه تطردنا وحشة الليل ومرارة الفراق.

ولعل ما يميز أغاني البراش في جهة تطاوين، علي وجه الخصوص أنّ هذا اللون الغنائي الذي تنشده وتنظمه النسوة هو بمثابة كشف الحجاب عن عديد المواضيع والمسائل التي لا يجوز أو يعد من العيب في المجتمع البدوي الخوض فيها. لعدة اعتبارات مختلفة متعلقة بالعرف والعادات والتقاليد، وطبيعة ونمط الحياة خاصة منها ما يتعلق بالحب والغزل والتعلق بالحبيبالفارس في البادية الذي تتغنا به الصبايا وتمني النفس بقدومه. وعادة ما يكون غريب عن العرش أو المجتمع والوسط الذي تعيش فيه ويقابل برفض العائلة والعرش نظرا لما يكتسبه قيم القرابة، والنسب من أهمية لدي المجتمع البدوي. فالنسب وحمل الاسم مصدر للفخر والتباهي، “ويمكن القول أنّ الصبايا في البادية ما يفسر تعلقهم بالفارس الذي يأتي من مكان بعيدا. ليأخذهم من تلك الحياة في البادية التي وإنّ بدت في ظاهرها، مليئة بكل معاني المحبة والسعادة فإن هذا لا يخفي ذلك الجانب من حياة البادية من المعاناة وتعب التنقل والترحال. وما يحمله من مشقة فتدعو الفتاة الله كتعبير، على التوق إلى التحرر من تعب العمل وقسوة الحياة.”[7]

وما يفرضه عليها أباها من أعمال ومتاعب فتقول يا سانية يا قديمة هدم الله جالك، الناس ترحل وتنزل وبابي يجدد حبالك. إنّ أغاني البرّاش تتجاوز كونها مجرد أغاني شعبية لتسلية، والترفيه أو للاحتفال فهي رفيقة حياة الإنسان في بيئته ومرعاه. وهذا ما يجعل من البرّاش بمثابة ديوان الجماعة الشعبية وهو سجل منجزاتها الثقافية وحصيلة خبرتها ومعارفها. فإن مكوناته تحفل بأصداء ما اكتنزته الذاكرة الجماعية ويمكن القول أنْ أغاني البرّاش، وإنّ يترأ للبعض أنها شبيهة بأغاني الأعراس أو الاحتفالات أو أنها تؤدي نفس الوظيفة فأن هذا لا يتعدى كونه مجرد انطباع. فبالبحث والغوص في عمق أغاني البرّاش وفهم كل تلك المعاني والأبعاد الدلالات الرمزية، ندرك أنّ هذا اللون الغنائي يتسم بنوع من الشمولية لذلك فهيا تعد .” سجلّا أمينا للبيئة التي أنتجته، وعليه ترتسم أكثر خصائصها أصالة وأعمقها تأثيرا[8]

 فهي لا ترتبط بحدث أو بمناسبة مثل أغاني الأعراس، أو أنها تتناول مواضيع محددة مثل أغاني الغزل أو الحب. بل هي إبراز وكشف وتطرق لجميع خبايا ومظاهر حياة البادية، في كل تفصيلاتها بل أيضا في بعض أغاني البرّاش نجد ذكر وكشف لعديد الجوانب التي لا تتطرق لها الأغاني الشعبية الاعتيادية في تطاوين. أوأنها تبرزها في صورة مخالفة لما هي موجودة عليه.

وهذا ما يضفي على أغاني البرّاش صفة الثراء والتميز. فأغاني البراش تعكس أفكار المجتمع البدوي واتجاهاته، وبالتالي هي نتاج لتلك لذاكرة الجماعية الشعبية وما تزخر به من مأثورات شفوية. هو بالضرورة تراث شعبي. ويعد هذا التراث “ إضافة إنسانية مستمرة للحياة ووسيلة مباشرة من وسائل، معرفة الإنسان عبر العصور وبخاصة معرفة الإنسان معرفة فنية ومعرفة الحياة التي عايشها الإنسان من خلال رؤية فكرية جمالة[9] يمكن القول أيضا إن أغاني البرّاش هي فرع من فروع التراث الشعبي. باعتبارها خلق ثقافي وفنّي يتجاوز الفرد وينفلت عن الخطاب الرسمي، وما يتضمنه من ثقافة سائدة ومهيمنة. كما أنّها تتجاوز دائرة المحظور والممنوع الدّينيكما تنصهر الأغنية ضمن ديوان التّقاليد الشفويّة، بانتمائها إلى دائرة المنقول والمتوارث شفهيا التي تمكّن جميع الثقافات مهما كانت رموزها التي تستعملها أو اللّهجات التي تعبّر بها من تأكيد ذاتها وهويتها

 وأغاني البراش كلون غنائي نسائي وبالرغم ما يحمله هذا اللون الغنائي من خصوصية، وفرادة إلا أنه لا يتعدى كونه جزاء لا يتجزأ من الأغنية الشعبية. وإنّ كان له طابعه الخاص فالمتأمل في امتداد تلك، المساحة الزمنية الواسعة يجد تراثا هائلا تعاقبت عليه السنين والأزمنة. وقد أختلف وتنوع حضور المرأة، باختلاف وتنوع خصوصية كل مجتمع. نظرا لما للمرأة من حضور بارز في المجتمعات العربية ،منذ القدم في مجال الغناء والإبداع الموسيقي. وقد أختلف هذا الحضور وتنوّع في أبعاده الفنية والتعبيريّة من مجتمع إلى آخر، ومن زمان إلى آخر. فتشكّل تبعا لذلك فنّا غنائيّا نسويّا إتّخذ أبرز معالمه وخصوصياته من خصوصيات المرأة كنوع إجتماعي في تفاعل مع خصوصيات مجتمعها “[10]

ومن هنا فقد أصبحت الحاجة ملحة إلى الاهتمام، بهذا التراث الذي في كثيرا منه أنساق إلى الإهمال والنسيان. ودفن بعضه مع الأجيال التي ولّت ولم يصلنا من هذا الكم الهائل إلّا القليل. وحتى هذا القليل بدأ يضمحل شيئا فشيئا.لأن التراث هو تجسيد لمعالم تلك الهوية لكل مجتمع، فهو يمثل خيال الشعب وأحاسيسه. فهو يتجاوز الرؤية الفردية الأحادية، لأنه ينبع من عمق تاريخ الأمة لأنه ضميرها الحي.

  ونظرا لما يمكن أن يحتوي عليه الغناء النسائي، من تصوير لمعالم هويتها الإنسانيّةلكونها ذاتا وكيانا إجتماعيا مؤثرا ومتأثرا بالضرورة في المجتمع “[11]

 وبالإضافة إلى ذلك يمكن القول إن أغاني البرّاش تجاوزت ذلك التصور الانطباعي، بأنها مجرد لون غنائي بدوي من خلاله نتمكن من التعرف على خبايا البادية. بل هو يمكن القول إنه بمثابة لغة لأهل البادية، وأداة لتواصل فيما بينهم ولا تفهم ولا تدرك لمن ليس منهم. فالبرّاش لم ينحصر في ذلك الطابع الغنائي الاحتفالي، بل تجاوز ذلك ليصبح في عديد المواطن أداة للأخبار أو لإيصال مرسول أو رد خبر ما. ومن هنا ندرك ونفهم ما تحمله أغاني البراش، من دلالات رمزية ومن إشارات إلى الرصيد الثقافي للمجموعة. فضلا عن وفرة العناصر والمكونات التي تستمر في الوجود وتواصل حضورها عبر الزمن. كما يمكن أن نشير إلى أنّ أغاني البراش إضافة إلى ما يتميز به من خصائص فنية وثراء في المعاني، وتجاوزها لكل تلك الحدود المتعارف عليها في الغناء الشعبي في الجنوب التونسي. وما تتميز به ممارسة، هذا اللون الغنائي من دلالات رمزية تجسد الواقع البدوي في مختلف تمظاهراته. فإن أغاني البرّاش كانت حاملة في طياتها بعدا عقائديا لعله لا يظهر للمتلقي العادي، الغير مدرك لتلك الأبعاد والدلالات والممارسات المصاحبة لأغاني البراش. هذا البعد العقائدي يتجسد خاصة في أن أغاني البراش، كانت مبعثا على التفاؤل خاصة بالنسبة للفلاحين في البادية. حيث كانت أغاني البراش تؤدي في عديد الأحيان، من أجل قدوم موسم فلاحي وفير وعند بداية هطول الأمطار.

كما أن ما يميز أغاني البراش أيضا في جهة تطاوين، المحافظة على الصور الشعرية القديمة المعروفة في الشعر الجاهلي.”فأنك لا تكاد تفرق بين الصور التي جاء بها شعر جماعة من الجنوب في وصف الفرس والمهري، والمطر وبين ما جاء في شعر امرئ القيس وطرفة مثلا في هذه المواضيع بالذات”[12]

فأغاني البراش مكنتنا من الاطلاع ومن التعرف على واقع المرأة البدوية داخل مجتمع يغلب، فيه طابع الحياء ومحافظ على الخصائص القبلية وتحكمه الأعرف القبلية. وحياة المرأة فيه محكومة بالطابع الذكور ويمكن القول أنّ عالم المرأة، أو الصبية في المجتمع البدوي ظلا ذلك العالم المحاط بالسرية والغموض. أو يمكن القول هو من الأشياء التي تكون حكرا على النساء ومحاطة بنوع من السرية. ولا يسمح بالخوض فيه ولا بإطلاع الرجال الذكور عليه.

ولعل هذا ما يجعل أغاني البراش تتميز عن غيرها من الأنماط والألوان الغنائية الشعبية، هو أنّ البرّاش يتميز بنشأتها في وسط بدوي وإنتشاره بسرعة في الأوساط النسائية الشعبية. وهذا ما جعل معظم أغاني البرّاش لا يمكن أن تتخذ شكلا سكونيا ثابتا فهي دائمة التغير وتتبدل أثناء عملية الانتقال، بالمشافهة أو بفضل الزيادات أو الاضافات التي تدخل على نصوصها. ” وبالإضافة إلى ذلك لا يمكن أن تحتفظ الأغنية بأدائها النغمي فترة طويلة من الزمن، كما يمكن أن تحافظ على صيغتها وألونها وحتى مواضيعها في  بعض الحالات”[13]

أيضا يمكن أنّ نشير إلى أن أغاني البرّاش، مكنتنا من معرفة منزلة المرأة ومكانتها في مجتمع يمجد فيه الرجل بصفته رأس القبيلة وعمادها. حيث أنا أغاني البراش أبرزت تلك الصورة للمرأة في المجتمع البدوي، صورة المرأة التي تسعي إلى التحرر وتجاوز الحرمان. فكان الأدب والغناء النسائي له دور كبير في الوسط البدوي من خلال استيعاب معظم وجل التجارب العاطفية، التي يعيشها الأفراد داخل مجتمعهم إلى جانب إبراز كل تلك التقاليد والممارسات والعادات في الوسط البدوي. إنّ فهم البراش باعتباره غناءً نسائيًا شعبيًا لا يكتمل إلا بالنظر إلى الإطار الاجتماعي والثقافي الذي يُمارَس فيه. فالبراش ليس مجرّد أداء غنائي تقليدي، بل هو فعل جماعي يعبّر عن روح الانتماء والاحتفاء، ويتجسّد داخل فضاءات مخصوصة تُعيد إنتاج القيم والعلاقات داخل المجتمع المحلي. ومن ثَمّ، يصبح من الضروري الانتقال إلى دراسة سياق الممارسة، للكشف عن الظروف الاجتماعية والرمزية التي تمنح هذا الفن الشعبي معناه واستمراريته.

 

   II.            البراش الممارسة والسياق الاحتفالي

 

لعل أبرز ما يميز أغاني البراش نشاءتها في وسط بدوي الأمر الذي مكن، من انتشار هذا اللون الغنائي في الأوساط النسائية في البادية. كما أن أغاني البرّاش وإن لم ترد مرتبطة بأنشطة احتفالية معينة كاحتفالات المرتبطة بالزفاف أو الختان أو، كل الممارسات الاحتفالية المرتبطة بحدث ما. فإن هذا لا ينفي أن أغاني البرّاش كانت بمعزل عن، كل مظاهر حياة البادية. فقد كانت مرتبطة بأنشطة الإنسان أو العائلة في البادية وهذا ما يجعلها “ لون من ألوان التعبير الإنساني من أحاسيس، النّفس من فرح وترح ورغبة ورهبة وما اليها “[14]

فأغاني البراش لم تراد اعتباطيا ولم تكن مجرد أغاني من أجل الترفيه أو تمضية الوقت فحسب، وإن ارتبطت في جوانب منها بالأبعاد الترفيهية وحضرت ممارسات التسلية ولكن ذلك لا ينفي ما تحمله أغاني البراش من عمق. يكشف ذلك “القمع ألذكوري الذي جعل المرأة تنكفئ على ذاتها تسلي نفسها، بما تجود به قريحتها من مكتمن الذات خارج الرقابة الذكورية”[15]

فأغاني البراش قد مست كل تلك الأعمال والممارسات للعائلة البدوية. نجد مثلا في موسم جني “البلح” براشة “خال صميدة ” والتي تكون في فصل الخريف، حيث يقوم الفلاح في البادية بجني البلح ويكون معه بناته. حيث كانت أغاني البراش تنتقل عبر المشافهة كذلك يمكن ان نشير  الي انه ، ومن خلال ما أجريناه من حوار تبين لنا أنّ براشة” خال صميدة “كان يرددها الصبايا من أجل أن يُسمح لهم باللقاء وسماح لهم بالمرح واللعب فكانت البنات في غنائهم لهذه البرّاشة، وكأنه طلب ورجاء من “خال صميدة ” الذي يمثل سلطة الأب في البادية أن يسمح لهم بالالتقاء.فكانت هذه البرّاشة وإن كانت فيها دعوة للهو وللمرح وللاتقاء بالأحبة فأنها لا تخلو من نوع، من ألم الفراق والاشتياق إلى الأهل وهي أيضا لا تخلو من وصف جمال وروعة البادية.

خَاْل صّْمِيدة َهــــــيِهْ                            خَلْيِ اَلبَّنَاتْ يِقْبْــــــلْوُ

نَخْلّتِينْ طُـــــــــــوَالْ                          وْعّرْجُوْنّيِنْ يِهّـــــــبْلوٌا

نَخْلّتِيِنْ فِيِ اَلْعِـــلِالْيِ                     يَا بْلّــــــــــــحْهّمٌ دِوْاَءّ

إن ما يمكن أن نتبينهٌ أن أغاني البرّاش كانت حاملة لعديد الدلالات، الرمزية وذلك انطلاقا من السياقات التي نزلت فيها وهذا ما يؤكد أن هذه الممارسات الغنائية الشعبية في البادية لم ترد بمعزل عن واقعها الاجتماعي والثقافي. فالأغنية الشعبية وكما يؤكد ذلك أحمد خواجة فقد ارتبطت أوكد الارتباط بالبيئة الجغرافية والاجتماعية.” إنّ الفنّ أصبح ظاهرة عامة يواجه بها، الإنسان احتياجاته الشّخصيّة والاجتماعية والروحية “[16]

فهذا اللون الغنائي في البادية وخاصة في جهة تطاوين، كان ضمن ممارسات وفي كثير من الأحيان ترتبط بحدث أو نشاط أو عمل ما في البادية. مثل براشة خال صميدةوالتي ارتبطت بموسم جني البلح في فصل الخريف وهذا يؤكد على أن هذا اللون الغنائي إنما إرتبط بأزمنة، ووقائع وهذا تأكيدا على أن هذا اللون الغنائي لم يكن مجرد لون غنائي تغلب عليه الانطباعية والاعتباطية.

ومن السياقات التي تتنزل فيها أغاني البرّاش، ويعتبر من أهم المواضيع التي تناولتها أغاني البرّاش موضع الإبل وما للإبل من أهمية في الحياة البدوية. “إن الإبل هي الحيوان الوحيد الذي صبر وتحمل المتاعب وكابد لوافح الصحراء، وشظف الجدب حاملا أجددنا إلى أرض لم يبلغوها إلا بشق الأنفس. فيحق لنا أن نعتبر حضارة الصحراء هي حضارة الإبل أو كما يقلون حضارة الجمل”[17] والإبل تكتسي مكانة هامة عند الإنسان في المجتمع البدوي. بل أن قيمة الفرد أحيانا في النجع تحدد بالإبل، فالفلاح في البادية يولي مكانة تكاد تكون مقدسة للأبل. فمن لا إبل له ليس له عضد ولا جاه ولا يؤخذ بكلامه، وقد وردت عديد أغاني البراش متناولة الإبل كموضوع. حتى أن بعض أغاني البرّاش، نجد فيها نوع من “المخيال الشعبي” الذي يصور تعلق الأبل في حد ذاتها بأصحابها في تأكيد على التعلق بالإبل وبالنجع وبحياة البادية. وفيه تأكيد أيضا على أنه بالرغم ما مر على المجتمع البدو في الجنوب التونسي، وخاصة في جهة تطاوين من كل أشكال الاستعمار ومحالات إدخال المجتمع البدوي في نمط وحياة المدن. وإجباره علي ترك كل تلك الممارسات والعادات فإن الإبل وفية لأصحابها ولي موطنها.”فمسرح البداوة هو البادية ثم ما يليها من أطراف الأقاليم المجاورة، وقد فرضت حياة البادية وتربية المواشي فيها على البدو حياة خاصة وأكسبتهم عادات ومميزات خاصة يجب فهمهما لفهم مشاكلهم الخاصة المختلفة”15

وهذا يتجسد من خلال براشة الإبل:

اَلْإبّْلْ قَاْلّْتْ حْلِيِليِ مْنّ بَرْ فِيِهْ اَلْنّصْـارَىْ           وَنْغّريْدّ عَلْىَ طُوْلَ لْيّلْيَ وْعّمْرِيِ مَشِالْيِ خْسّـــاْرَةّ

وَاَلْإبّلْ قَالْتّ غِيْرّ اَجْلّوُ بِيْـــــــــــــــــا             إنْزّلْكٌمّ فِيِ فْجـــــٌوْجّ خْلِيِّـــــــــــــــــــــــــــــــــــةَ

وْ َاَلْرْوٌمّيِ مَاّ طْقّتّْشَ لَعْبَا وْلّبْاَسّ لْلكَشْابِيِـةّ      وْاَلإْبّلْ قَالّْتّ اَجْلٌوُ قْبْلّيْةّ وْبّلاَدْ اَلْتٌرْكِيِ نْهّرْ وُبْـــلا َ

فالإبل احتلت في نفوس العرب مكانةً مرموقةً منذ القدم، فهي رفيقة الإنسان البدوي وقد طوى على ظهرها الفيافي والقفار وأدلج الأصقاع والأمصار. فالإبل قديما كانت موضعَ القصيدة والحكاية. وملهمة للشعراء في القدرة على الحركة وسط الظروف الصعبة. وهذا ما يفسر أن معظم أغاني البراش كانت تتغني بالإبل. حتى أن بعض أغاني البرّاش وإن كانت تتناول ممارسات، واحتفالات أخري فإن الإبل تحضر لما تكتسيه من أهمية. إن أغاني البرّاش وإن استأثرت بنسبه هامة منها بالإبل كموضوع ومبحث، فإن هذا لا ينفي صفة الثراء عن أغاني البرّاش التي تناولت كل الممارسات والاحتفالات والتقاليد والعادات في حياة المجتمع البدوي. في جدها ولهوها ومرحها، “يعدّ التراث الغنائي الشعبي باختلاف أنواعه جزءا هاما من هويتنا الثقافية “[18]  ومنها الأفراح والمناسبات مثل الأعراس وحفلات الختان وغيرها من احتفالات أهل البادية. أعراسهم قديما في البادية كانت بانتقال أهل النجع إلي صاحب “العرس” أو الزفاف، ولا يبقي أحد ويقيمون عنده إضافة إلي كونه لا يخلو من الجوانب الأخرى من لقاء الأحبة والتقاء الصبايا واجتماعهم وقدوم الفرسان وما يتبع ذلك من ممارسات. مثل “اللهيد”[19] الخيل فالأعراس في المجتمع البدوي تكتسي أهمية بالغة، ولها طبعها الاحتفالي المميز وذلك كونها تعكس خصوصية المجتمع البدوي. وهذه ما نجده في براشة المشي للعرس.

بَرْشْةّ مَا ْبْيّنْ اْلْدْوَاْوِيْرّ وْحِيْرّتْ مَنْ كَانْ نَائِــمْ         قُوْمُ ألْعْبّوٌ يَا اَلْبْنّياْتْ وْاَلْفّرْحَ مَاَزْالْ دَاْيّـــمْ    

هَكْيِ العشيشة اَلْصْغِيْرةّ اَلْمْحّجْرْةَ بِاْلْحَوْالّـــيِ        عْلِيْهَا سْقِيْطّةَ سْمِيْنّةَ مَا بْيّنْ باَيْعْ وُشَـــاْرْيِ

يَا قْصْعّة ْاَلْسْرّجْ رَنْيِ يَا مْخْضّبَةَ باْلْحَنَاْنِـيِ        يَا دْمْعةّ اَلْعِينْ كِفْيِ خُوْيِ بْنّ اُمْيِ جَفْانْــــــيِ

في وحدة مكوناته فهذه الممارسات الاحتفالية، حاملة لعدة دلالات رمزية فيها تأكيد على ترابط نسيج المجتمع البدوي. وثراء ثقافته” إن ثراء الثقافة الشعبية والتصاقها بأحاسيس الجماعات ووجدانها، جعلنا نميل إلى اعتمادها كمرجع أو إبستمي نتمكن بواسطته من مقاربة الواقع ورصد حركة مجتمعنا في التاريخ والزمان”[20] فالأعراس في البادية تجاوزت تلك الأبعاد الاحتفالية لترسم لنا حياة المجتمع البدوي. باعتبار أن الأعراس هي ضرب من ضروب، ” الفنون التقليدية وهي تعبير عن أصالة الشعوب كمادة إبداعية أبدعتها الشعوب تلقائيا. تعبر عن فكرها ووجدنها ويمتزج بها الموروث الثقافي والتاريخي، مع الخبرة الإنسانية في تجربة الحياة اليومية”20

كما أن أغاني البرّاش أيضا وبالإضافة إلى ذلك تناولت عدة، مواضيع في حياة البادية كانت بمثابة السياقات والأطر التي تنزل فيها هذا اللون الغنائي. ومن بينها باب اللهو والمرح والترويح على النفس. وفي هذا الإطار يمكن القول أيضا أن أغاني البرّاش، على الرغم انها كانت لونا غنائيا تجاوز الألوان الغنائية الشعبية المعهودة. إلا أن هذا لا ينفي أن هذا اللون الغنائي، غير حامل لبعض خاصيات الأغنية الشعبية عامة من التداول بين العامة والتوارث بين الأجيال إلى أن وصلت بأشكالها الحالية. “فالأغنية الشعبية أغنية مجهولة المؤلف والتي نشأت بين العامة، في أزمنة ماضية وبقيت متداولة بينهم لمدة طويلة حتى وصلت إلينا بشكلها الحالي “[21]

كما يمكن القول أيضا في هذا الأطار ومن خلال دراستنا وتعرضنا لهذا اللون الغنائي الشعبي، النسائي ولئن يبدو في ظاهره وكأنه حامل لعديد المعاني أو الدلالات والرموز التي يصعب إدراكها وكشف خفاياها.  فإن هذا لا ينفي حمل هذا اللون الغنائي الي عديد الإشارات سهلة الأدراك. التي من خلالها تدرك الحياة اليومية لأهل البادية، في مختلف أبعادها ومظاهرها. وكل قصائد الجنوب سواء تغنت بالمحبوبة ذات العينين الذابلتين أو بالمحارب، فهي تحتوي على إشارات سهلة الفهم إلي الحياة العادية والمشاغل اليومية وإلي شيمهم الريفية والرعوية .

كذلك يمكن القول ان لعل ما يميز الأغنية الشعبية عامة أنها تحافظ على العادات والتقاليد والمعتقدات الخاصة، بالجماعة الشعبية وذلك لتناقلها مشافهة من جيل الى أخر حاملة معها هذا الكم الهائل من الموروث الثقافي الخاص بالجماعة الشعبية. عبر الزمن الأمر الذي جعلها تتمتع بعديد الخصائص كجماعية التلحين وسهولة التلحين فالأغنية الشعبية كما وصفها أحد الدارسين، هي واحدة من أعظم ألغاز التجربة الإنسانية. فهي بلا شك ملك الناس أو العامة ومع ذلك فإن الناس لم يقوموا بصنعها وكذلك فأنها ليست تعبيراً تم بطريقة خفية، عن الحياة العاطفية للناس لأنها على العكس من ذلك نتيجة حصاد المهارة الفنية الفردية. من خلال عمل عدد غير محدد من المغنين الشعبيين الذين أسهموا في أن تصل إلينا في شكلها الحالي.

ولعل هذا ما يحيلنا على موضوع ما يتعرض له الموروث الغنائي الشعبي من تهديد بالاندثار وتلاشي، ولعل أغاني البرّاش خير دليل علي ذلك وهذا ما لمسنه من خلال الدارسة التي قمنا بها. فهذا اللون الغنائي أتسم بنوع من الغموض حتى عند أهل الجهة أو بنوع من الازدراء أو التجاهل وغياب، البحث في هذا اللون الغنائي.”إن في أدبنا الشعبي كنوزا لو ندري كيف نستخرجها ونرعاها وفي ترثنا العربي درر، أستغلها الغرب قبل أن نستغلها والأمر لا يحتاج إلا إلى عزيمة مخلصة””[22]

الخاتمة

إنّ تلاشي أغاني البرّاش في الجنوب الشرقي التونسي لا يمكن النظر إليه بوصفه مجرّد اختفاءٍ لنمطٍ غنائيّ نسائيّ تقليدي، بل هو في جوهره مؤشّر على تحوّل بنيوي في منظومة القيم والتعبيرات الرمزية داخل المجتمع المحلي. فقد كان هذا اللون الغنائي جزءًا من نسيج الحياة اليومية، ومن فضاء التعبير الشفوي الذي من خلاله وجدت المرأة الريفية وسيلتها الخاصة للتعبير عن الذات، وللتواصل مع محيطها الاجتماعي ضمن منظومة من المعاني والإيقاعات التي تستبطن الذاكرة الجماعية للمجتمع البدوي.

لقد شكّل البراش ذاكرة صوتية جماعية تعبّر عن الفرح والحزن، وعن تفاصيل الحياة البسيطة المفعمة بالعفوية والانسجام مع الطبيعة. كان الغناء فعل انتماء واحتفاء بالوجود، تتعانق فيه الكلمة والإيقاع لتنتجا رؤية فنية للعالم تستمد قوتها من التجربة المعيشة ومن الترابط الوثيق بين الإنسان وفضائه البيئي. غير أنّ التحولات الاجتماعية الكبرى، وما رافقها من انتقال تدريجي من نمط الحياة البدوية إلى أنماط حضرية حديثة، أضعفت البيئة الحاضنة لهذا التراث، ففقد البراش وظائفه الرمزية والاجتماعية التي كانت تضمن له الاستمرارية.

ومع ذلك، فإنّ هذا الاضمحلال لا يعني نهاية حضور البراش في الذاكرة، بل يفتح المجال أمام إعادة التفكير في سبل إحيائه وتثمينه ضمن مقاربة ثقافية جديدة تراعي التحولات الراهنة دون المساس بجوهره التراثي. إنّ توثيق هذا اللون الغنائي، ودراسته ميدانيًا وأنثروبولوجيًا، يمثّلان خطوة أساسية نحو صون جزءٍ من الهوية الثقافية للجنوب الشرقي، وإعادة الاعتبار لدور المرأة في صياغة التراث اللامادي وإغنائه.

فالبرّاش ليس مجرّد ممارسة فنية من الماضي، بل هو نصّ حيّ في الذاكرة الشعبية، يختزن سرديات عن المكان والمرأة والهوية، ويعكس قدرة الثقافة الشعبية على البقاء والمقاومة رغم تحوّلات الزمن. ومن هنا تبرز الحاجة إلى التعامل مع هذا التراث بوصفه رصيدًا رمزيًا وجماليًا، لا مجرد أثرٍ منقرض، بما يمكّن الأجيال القادمة من استلهام قيم الأصالة والتعبير الجماعي التي حملها هذا الغناء النسائي عبر التاريخ.

 

 

 

 

 

 

قائمة المصادر والمراجع

الخطيب (محمد)، المجتمع البدوي، منشورات دار علاء الدين لنشر والتوزيع والترجمة، سورية الطبعة الأولي سنة، 2007،

أبو زيد، (أحمد)، واخزون، دراسات في الفولكلور، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1972،

  أمال (الشنيني)، الأغنية الشعبية في حياة المرأة الريفية بمنطقة ماجورة، من ولاية قفصة رسالة بحث لنيل شهادة الماجستير في جماليات وتقنيات الموسيقي، المعهد العالي للموسيقي بسوسة،2010-2011،

البقلوطي (الناصر)، مقولات من التراث الشعبي، منشورات دار تبر الزمان، تونس-2005،

بن تنفوس، (عزيزة): التراث الغنائي العربي، مجلة الفنون الشعبية عدد11، تونس، المعهد الوطني لتراث،1996،.

  بوذينة (محمد)، الرقص والغناء في حضارات الشعوب، منشورات محمد بوذينة جوان، 1999،

تيمور (أحمد يوسف)، جمع وتسجيل وتدوين الأغاني الشعبية، مجلّة التراث الشّعبي، بغداد، العدد، 3-4/1977،

الجمني (نهي)، أساليب التعبير عن الهوية النسوية وشواغل المرأة، من خلال سجل الأغاني النسائيّة التراثية بمدينة مكثر، دراسة سوسيلوموسيقية، رسالة بحث لنيل شهادة الماجستير، في جماليات وتقنيات الموسيقى اختصاص، علم الموسيقى، المعهد العالي للموسيقي بسوسة، 2008-2009،.

الحبيب (محمد)، التراث الفنّي في تونس، التراث الفنّي العربي وطرق عرضه،.

   حجاب، (نمر حسن)، الأغنية الشعبية في شمال فلسطين، منشورات رابطة الكتاب جراد، جراد،(فاطمة)، العائلة والحياة العائلية بجهة تطاوين،1881-1956، تقديم (د): فتحي ليسير، جامعة منوبة المعهد العالي لتاريخ المعاصر تونس 2015،

  حميد عارف(مجيد)، الأثنولوجيا والفلكلور) علم التراث الشعبيالنطقي والمادي (، مطابع التعليم العالي، دار الكتب والوثائق. ببغداد، سنة 1990، جامعة بغداد كلية الآداب،.

خريف، (محي الدين):الشعر الشعبي التونسي أوزانه وأغراضه، تونس ليبيا’ الدار العربية للكتاب، 1991،.

الخصخوصي (أحمد)، نعيمة غانمي ومبروك المناعي، أغاني النساء في بر الهمامة، الأطلسية لنشر الطبعة الأولي جانفي 2010، 

خواجة، (أحمد)، الذاكرة الجماعية والتحولات الاجتماعية من مرآة الأغنية الشعبية، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، تونس، منشو رات البحر الأبيض المتوسّط،1998،

زهني (محمود)، الأدب الشعبي، مفهومه ومضمونه، الناشر مكتبة الأنجلو المصرية ،1982،

العربي، (علياء)، “صوت العرضاوي: مقاربة أثنوموسيقولوجيّة”، مجلة الثقافة الشعبيّة، العدد 22، 2013،

القشاط، (محمد سعيد)، الإبل وحضارة الصحراء، دار الملتقي لطباعة والنشر، بيروت ،1998،.

مرتي (بول)، أناشيد الجنوب التونسي الغنائية الشعبية، تعريب وتعليق الحسناوي الزراعي، دار سحر لنشر،2006،

   المرزوقي (محمد)، الأدب الشعبي في تونس، الدار التونسية لنشر، 1967،.

اليافي (عبد الكريم)، “الإبداع في الفنون والعلوم “، المجلة العربية للثقافة، ع.18، تونس، مارس، 1990،

يوسف، (سوزان)”الفولكلور لغة لتواصل الحضارات”، مجلة الثقافة الشعبية، العدد 40، شتاء 2018،.

 

                                                                                     

 

 

 

 

 


[1] خواجة، (أحمد)، الذاكرة الجماعية والتحولات الاجتماعية من مرآة الأغنية الشعبية، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، تونس، منشو رات البحر الأبيض المتوسّط،1998، ص41.

[2] حجاب، (نمر حسن)، الأغنية الشعبية في شمال فلسطين، منشورات رابطة الكتاب الأردنيين ،1983، ص11.

[3] إبراهيم (نبيلة)، أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار نهضة مصر للطبع والنشر، (د.ت) القاهرة مصر العربية ،1981، ص 26

[4] الرزقي، (الصادق)، الأغاني التونسية، دار سحر لنشر تونس، 2011، ص19.

[5] جراد، (فاطمة)، العائلة والحياة العائلية بجهة تطاوين،1881-1956، تقديم (د): فتحي ليسير، جامعة منوبة المعهد العالي لتاريخ المعاصر تونس 2015، هامش ص، 367.

[6] نفس المرجع، ص، 367

[7] البقلوطي (الناصر)، مقولات من التراث الشعبي، منشورات دار تبر الزمان، تونس-2005،

ص35

[8] حميد عارف(مجيد)، الأثنولوجياوالفلكلور) علمالتراثالشعبيالنطقيوالمادي (، مطابع التعليم العالي، دار الكتب والوثائق. ببغداد، سنة 1990، جامعة بغداد كلية الآداب، ص.

[9] بوذينة (محمد)، الرقص والغناء في حضارات الشعوب القديمة، ص13

[10] الجمني (نهي)،أساليبالتعبيرعنالهويةالنسويةوشواغلالمرأة،منخلالسجلالأغانيالنسائيّة التراثية بمدينة مكثر، دراسة سوسيلوموسيقية، رسالة بحث لنيل شهادة الماجستير، في جماليات وتقنيات الموسيقى اختصاص، علم الموسيقى، المعهد العالي للموسيقي بسوسة، 2008-2009، ص 5.

[11] المرزوقي (محمد)، الأدب الشعبي، الدار التونسية لنشر 1967، ص51.

[12] الخصخوصي (أحمد)،نعيمةغانميومبروكالمناعي،أغانيالنساءفيبرالهمامة، الأطلسية لنشر الطبعة الأولي جانفي 2010، ص26.

[13] الحبيب (محمد)، التراثالفنّيفيتونس،التراثالفنّيالعربيوطرقعرضه، ص 14.

[14] القشاط، (محمد سعيد)، الإبل وحضارة الصحراء، دار الملتقي لطباعة والنشر، بيروت ،1998، ص29.

[15] جراد، (فاطمة)، نفس المرجع، ص367

[16] تيمور (أحمد يوسف)، جمع وتسجيل وتدوين الأغاني الأغاني الشعبية، مجلّة التراث الشّعبي، بغداد، العدد، 3-4/1977، ص 127

[17] العربي، (علياء)، “صوت العرضاوي: مقاربة أثنوموسيقولوجيّة”، مجلة الثقافة الشعبيّة، العدد 22، 2013، ص.108

[18] اليافي (عبد الكريم)، “الإبداع في الفنون والعلوم “، المجلة العربية للثقافة، ع.18، تونس، مارس، 1990، ص.16

[19] اللهيد: أو لهيد الخيل ويكون في الأفراح، والأعراس وهو من تقاليد أهل تطاوين في الجنوب الشرقي التونسي ، ويكون أما استعراضيا أو تنافسيا

[20] يوسف، (سوزان)”الفولكلور لغة لتواصل الحضارات”، مجلة الثقافة الشعبية، العدد 40، شتاء 2018، ص.14

[21] ابو زيد، (أحمد)، واخزون، دراسات في الفولكلور، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1972، ص310

[22] ([22])خريف، (محي الدين):الشعر الشعبي التونسي أوزانه وأغراضه، تونس ليبيا’ الدار العربية للكتاب، 1991، ص، 58.

 

 

 

 

 

 

 

 

جميع المواد المنشورة تعبّر عن رأي كاتبها ولا تعبّر بالضرورة على رأي مؤسسة إيبلا